بين الهديّة والرشوة: كيف نحفظ نقاء الرزق ونلتزم بشرع الله

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له ومَن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
قال اللهُ تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]
أما بعد عباد الله:
فإنه كما لا يخفى عليكم من المسائل المهمة العظيمة التي ينبغي لنا التنبيه عليها في كثير من الخطب، أن ينتبه الإنسان للمال الذي يدخل عليه وللرزق الذي يرتزقه، وأن يكون كل سنتيم أو يورو يُدخله إلى بيته أو يضعه في حسابه حلالًا؛ لأن الرزق الحلال هو أساس نجاح المؤمن في دنياه وأساس فلاحه في أخراه.
ومن أجل ذلك –أحبتي في الله– نوضح في كل مرة مسألة من المسائل التي قد تكون دقيقة وتخفى على كثير من الناس، وهي مما يدخل في الأعمال المحرمة التي يُكتسب بها مالٌ حرام أو يُعطى من خلالها مالٌ حرام. فالمؤمن مطالبٌ أن يتحرى الحلال دائمًا، وألا يقع في محظور يأكل به سحتًا أو يُعطي به ما لا يحل له.
واليوم نعالج هذه المسألة من جهة التفريق بين الهدية المستحبة في دين الله عز وجل، الهدية الحلال التي يؤجر عليها المسلم، وبين ما ليس بهدية أبدًا، بل هو رشوةٌ محرمة في دين الله تُلبَس لباس الهدية. فكيف نعرف الهديَّة الحلال من الرشوة المقنَّعة، حتى لا نعطي الرشوة المقنعة ولا نأخذها؟
أولًا: أهمية الرزق الحلال
الرزق الحلال هو أساس البركة في حياة المؤمن، فبه يهنأ باله وتطمئن نفسه ويحصل على مرضاة الله عز وجل. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا»
(أخرجه مسلم في صحيحه رقم: 1015)
فإذا تأملنا في حياة الصحابة والسلف الصالح وجدنا مدى تحريهم في مصادر أرزاقهم؛ لأنهم يدركون أن الحرام يمحق البركة وأن الحلال ينميها ويزيدها.
ثانيًا: متى تكون الهدية عملًا صالحًا؟
إن الهدية في الإسلام بابٌ عظيم من أبواب تعزيز المحبة والألفة بين الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم:
«تهادوا تحابوا»
(رُوي في الموطأ مرفوعًا، وفيه روايات أخرى منها ما رواه البخاري في الأدب المفرد)
فالهدية سنة نبوية مستحبة إذا كان المقصود منها إدخال السرور على قلب المسلم دون انتظار عوض أو مقابل.
ومن علامات الهدية الشرعية:
- أن تكون عن طيب نفس: أي يخرجها الإنسان وهو راضٍ سعيدٌ بها، لا ينتظر ردًّا بالمثل أو بمبلغ مساوٍ. فإن جاءت هدية من المُهدى إليه لاحقًا، فهذا من كمال حسن الخلق، لكن لا يجوز اشتراطه.
- عدم اشتراط المعاوضة: فلا ينبغي أن يعطي شخصٌ لآخر مالًا أو هديةً ثم يعتبر ذلك دينًا يجب رده بنفس القيمة أو أكثر في مناسبة أخرى، وإلا فإنها تخرج عن كونها هديةً شرعيةً.
جاء في الحديث:
«مَن أُعطي عطاءً فوجد فليجزِ به، فإن لم يجد فليُثنِ به، فإن أثنى عليه فقد شكره»
(أخرجه أبو داود رقم: 1672، والترمذي رقم: 2039 وقال حديث حسن صحيح)
فالمقصود أنَّ الهدية الحلال باب للتآلف بين الإخوة والأصحاب، والأصل فيها أن تكون محض محبة، لا أن تتحول إلى معاملة تجارية مشروطة.
ثالثًا: متى تنقلب الهدية إلى رشوة محرمة؟
قد يلتبس الأمر على البعض، فترى إنسانًا يدعي أنه يُهدي في حين أنه في الحقيقة يرشو أو يتلقى رشوة. وهذا خطير جدًا، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش (أي الوسيط بينهما).
وأهم العلامات التي تميز الرشوة:
- غياب طيب النفس: فالمعطي قد يدفع المال كارهًا، يسبّ في خفاءه، أو يقصد به غرضًا غير مشروع، كشراء ذمم الناس أو استمالتهم ظلمًا.
- وجود مصلحة وظيفية أو قضائية: وتأتي غالبًا بشكل هدايا تُقدَّم لمن لهم سلطة إصدار قرار، فيُمالون لصاحب الهدية على حساب الأمانة والعدل.
وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث مشهور من خطورة هدايا الموظفين وذوي المناصب؛ فقال:
«هدايا العمال غُلول»
(أخرجه أحمد في مسنده رقم: 23405، وحسّنه بعض أهل العلم)
وأشار إلى قصة ابن اللُّتبية (وهي في الصحيحين: البخاري رقم: 7174، ومسلم رقم: 1832) عندما جاء بجزء من الأموال للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: “هذا لكم وهذا أُهديَ إليَّ”. فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم إنكارًا شديدًا وقال بما معناه: «هلا جلست في بيت أبيك وأمك فنظرت أيُهدى إليك أم لا؟».
والمعنى أن هذه الهدية لم تأتِ إلا بسبب وظيفته وعمله الرسمي، ولو أنه بقي في بيته بغير عمل، ما أُهدي إليه شيء.
رابعًا: أمثلة واقعية يحتاجها الناس
- الهدايا للمدير أو المسؤول:
موظف في شركة، يقدم لمديره هدية باهظة الثمن كي يحظى بترقية أو معاملة خاصة على حساب الآخرين. هذه ليست هدية شرعية، بل رشوة. - هدايا لأصحاب المناصب أثناء معاملات رسمية:
كرجل يحتاج توقيعًا أو موافقة على معاملة، فيُقدم للمسؤول هدية قيمة حتى تُنجز معاملته على وجه غير عادل أو فيه تمييز. - اشتراط الرد بمثل المبلغ في المناسبات:
كمن يهدي في عرس أو ختان مائة يورو، ثم يغضب إذا لم يردّ له مثلها أو أكثر في عرسٍ مماثل. فهذا التعامل ليس من صميم الهدايا الشرعية؛ لأن النية تحولت إلى معاوضة إجبارية.
خاتمة ودعاء
أيها الأحبة، إن حرص المؤمن على أن يكون ماله حلالًا، وأن تكون هداياه خالصة من شوائب الرشوة والمقايضة، دليل على صدق إيمانه وورعه. فـالرزق الحلال هو سبيل البركة والسعادة في الدنيا والآخرة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا الحلال الطيب، وأن يطهر أعمالنا ومعاملاتنا من كل ما يشوبها. اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا، واجعلنا من عبادك الصالحين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.